في كل طفل متوحد، قصة لم تُفهم بعد، وقلب لم يُصغَ إليه كفاية، ونافذة تنتظر من يفتحها على العالم بلطف.
🔹 عندما لا يكون “الاختلاف” مرئيًا للعين
حين نسمع كلمة “توحد”، قد تهمس بداخلنا مشاعر متباينة: حيرة، قلق، وربما خوف من المجهول. البعض يظن أن طفل التوحد يعيش في عالمٍ مغلق، لا يسمع ولا يشعر، لكنه في الحقيقة يسمع بطريقته، يشعر بطريقته، ويحب بطريقته.
إن اضطراب طيف التوحد ليس مرضًا مزمنًا يُخيف، بل هو أسلوب خاص في استقبال الحياة. هو اختلاف في طريقة استقبال الأصوات، تحليل المواقف، فهم اللغة، أو التعبير عن العاطفة. والجميل في هذا الطيف أنه لا يشبه أحدًا، لأنه يتلون بتجربة كل طفل على حدة، كأن كل منهم عالم صغير يستحق أن نكتشفه بروية لا بحكم مسبق.
🔹 ليسوا غرباء… بل أصدق من الآخرين
طفل التوحد ليس غريبًا عن عالمنا، بل نحن الغرباء عن عالمه. إنه لا يفتقد العاطفة، كما يظن البعض، بل يحب بصدق صامت. عناقه قد يتأخر، ونظراته قد تختفي، لكنه حين يمنحك ابتسامة، فهي نابعة من أعماق الروح، لا من المجاملة.
قد يُغضبك أنه لا يرد على سؤالك، أو لا يُظهر اهتمامًا بما تقول، لكن ما لا تراه هو أن دماغه يحلل التفاصيل بعناية، وأنه يشعر، وإن لم يتكلم. إننا نظلم أطفالنا حين نقيسهم بمعاييرنا، بدلاً من أن نحاول أن نفهم مقاييسهم الخاصة.
🔹 المعنى الطبي… بداية لاختلاف جميل
التوحد يُعرّف طبيًا بأنه اضطراب في النمو العصبي يظهر خلال السنوات الأولى من عمر الطفل. وهو لا يصيب الذكاء كما يُعتقد، بل يؤثر في طُرُق التعبير والتفاعل والتواصل. وهذا ما يجعل بعض الأطفال يتقنون العد قبل الكلام، أو يركّبون القطع بدقة مذهلة رغم صعوبات لغوية.
لكن خلف كل تعريف طبي، هناك أب قلق، وأم تسهر الليل على شاشة هاتفها تقرأ وتتمنى وتبكي بصمت. لذلك، فإن التشخيص الطبي ليس سوى الخطوة الأولى… والرحلة تبدأ بعدها، حين يدرك الأهل أن طفلهم لا يحتاج إلى “إصلاح”، بل إلى فهم ورعاية مخصصة.
🔹 لحظة التشخيص… وتحول المعركة إلى رسالة
في لحظة ما، تجلس أمام طبيب ينطق الكلمات بهدوء: “طفلك ضمن طيف التوحد”…
تُشلّ لحظتها كل الأحلام الصغيرة التي علقتها على باب غرفته. تشعر بالضياع، وتبحث عن سبب…
لكن لا ذنب لأحد.إنها لحظة مؤلمة، نعم، لكنها ليست النهاية. بل هي بدايةٌ جديدة.
الطفل ما يزال هو هو: ذاك الذي ضحكك في أول مرة نطق فيها صوتًا، وأبكاك من فرط جماله حين احتضنك بلا سبب. فقط أصبح يحتاج إلى خريطة جديدة، ومفاتيح غير مألوفة، وصبر أطول.وبينما تمضي الأيام، تكتشف أن ما حسبته ابتلاء… كان في الحقيقة فرصة لبناء إنسان نقيّ، ولكي تصبح أبًا أو أمًا من طراز نادر.
التوحد لا يُنهي الطفولة، بل يرسمها بلون مختلف.
وكل طفل على الطيف هو مرآة لرحمتك، لا لعلمك فقط.
فأحِطْه بالحب، لا بالشفقة. وفكّر في ما يمكنه أن يصبح عليه، لا ما ينقصه.
فربما تكون أعظم هبة في حياتك جاءت على هيئة “طفل مختلف”.